مآثر بطل من الثورة السورية الكبرى

فضل الله النجم الأطرش

المجاهد-فضل-الله-الأطرش
المجاهد-فضل-الله-الأطرش

قاتل الفرنسيين وهاجم قوافلهم واخترق حصونهم
وأسر ضباطـــــهم وهو جريح ينزف الدمــــــــاء

حطم قافلة إمداد الجنرال ميشو بزمرة من الرجال
فارتفعت المعنويات وكان النصر المدوي في المزرعة

مفاجأة سارة في اجتماع متوتر مع بدو الأردن
ولماذا ارتمى ضابط حملة الشيشكلي عليه شاكراً؟

«إن لله رجالاً إذا أرادوا أراد»
في التاريخ الحافل لجبل العرب في سوريا فصول بطولة ومآثر رجولة وشرف وحكمة أدهشت العالم وجذبت اهتمام المستشرقين وأثارت إعجاب ألدّ خصوم العشيرة المعروفية هناك ونعني بهم ضباط السلطة المنتدبة الفرنسية الذين قادوا حرباً حقيقية استهدفت إخضاع أهل الجبل وكسر عنفوانهم لكنهم فشلوا رغم ما تسببوا به من قوافل شهداء ودمار واسع وتجويع وتشريد ونفي. هؤلاء الضباط القساة الذين قاتلهم بنو معروف باستماتة وأوقعوا بهم هزائم منكرة تطور لديهم مع الوقت شعور إعجاب خفي واحترام لهؤلاء الرجال الأباة ولعنادهم ولاستهانتهم العجيبة بالموت، فكتب عدد من الضباط الفرنسيين في ما بعد شهادات عبروا فيها عن تلك المشاعر وإن كانت هذه اختلطت غالباً بشعور التفوق وعنجهية السيادة الأوروبية.
إحدى قصص البطولة التي سطعت خلال نضال أهل الجبل ضد الفرنسيين هي ولا شك قصة الفارس البطل فضل الله النجم الأطرش. قصة فيها الكثير من فصول الشجاعة المثيرة لكن فيها أيضاً مصادفات ومفاجآت تصلح في حد ذاتها أساساً لكتابة الرواية الدرامية. وهذه المصادفات ليست في الحقيقة مصادفات بل كرامات من الله تعالى لهؤلاء الأشاوس الذين أظهروا إيمانهم بالأفعال وقدموا صورة التسليم بمساكنة الموت وازدراء الجبن بكل مظاهره.
فضل الله نجم الأطرش، بطل من عرمان في جبل العرب قاتل الفرنسيين وصارعهم في مواقع كثيرة وهاجم قوافلهم منفرداً تقريباً واخترق حصونهم وأسر ضباطهم وهو جريح ينزف الدماء ويغالب شعور الإغماء، لكنه أيضاً رجل شهامة وشرف نصره الله ويسر له من المآثر ومظاهر التأييد ما جعل ألدّ أعدائه ينقلبون فجأة إلى محبين له مستعدين لبذل أي شيء تقديراً لخصاله وسمو أعماله.

فضل الله وجحيم معركة المزرعة
قبيل معركة المزرعة المظفرة وفي معركة شديدة جرت في عرى بين المجاهدين وبين القوات الفرنسية تمكّنت الحملة العسكرية الفرنسية بقيادة الجنرال ميشو من إلحاق هزيمة بالمجاهدين انتهت باحتلال بلدة عرى واتخاذها مركزاً عسكرياً ومنطلقاً لمحاولة فرض السيطرة على جبل العرب بكامله.
خلال تلك المعركة قتلت الفرس تحت المجاهد نسيب نصار من قرية سالة، وكان اسمها الدويرجية، ( نوع من خيول منسوبة إلى آل دويرج من ديار نجد في الأراضي السعودية)، وكان ثوار بني معروف يومها ينسحبون تحت النيران الغزيرة لحملة الجيش الفرنسي، وأثناء انسحابهم، شاهد فضل الله المجاهد كامل فرج الذي كان مرافقاً لزوج اخته نسيب نصار من قرية سالة، قال له: أين عمك يا كامل؟
قال كامل:«وقع هو والفرس على الجسر وراءنا، وما قدرنا نخلّصه تحت الضرب»، ومع أنّ ذلك الانسحاب يومها كان انسحاباً ممزوجاً بطعم الهزيمة، فقد انتفض فضل الله كمن لدغته أفعى، لوى عنان فرسه، وانطلق راجعاً باتجاه حملة الجيش المتقدمة التي كانت تلاحق الثوار، وكان ينشد وهو منطلق على ظهر فرسه «ما عند النّسيب إلاّ نسيبه»، كانت فرس نسيبه نسيب مصابة في صدرها برصاصات خمس، ونسيب هو زوج أخت فضل الله وقد تمكّن الأخير من الوصول إلى الرجل وإنقاذه وخلصه بذلك من ذل الوقوع في أسر مقدمة قوات الجيش الفرنسي الزاحفة وعاد به إلى حمى الثوار.
كان ذلك اليوم يوماً صعباً على ثوار بني معروف، فقد اضطروا الى التراجع بسبب القصف المدفعي وقصف الطيران الفرنسي، وزحف الدبابات بخطة حرب حديثة لا عهد لهم بها من قبل، فأسلحتهم كلها عبارة عن أسلحة فردية، وبعضهم كان يلتحق بميدان المعركة وهو يحمل السلاح الأبيض، بل والفؤوس، والعصي، أملاً في أن يغنم من العدو بارودة أو مسدّساً…
توزع الثوار عصر ذلك اليوم في القرى المتاخمة لجبهة الجيش الزاحف باتجاه الجبل، كان فضل الله وفريق من كبار المجاهدين منهم جاد الله سلاّم وأخوه هايل من قرية طربا، وحمزة درويش من الحريسة، ومحمد شرف من تيما، وفرحان زيتونة، وعبطان النجم من القريا، ومحمود أبو يحيى من شقّا، هؤلاء كان نصيبهم أن نزلوا ضيوفاً بُعيد عصر ذلك اليوم في قرية نجران في مضافة أبو فندي نايف نصر، ولما قدّم المضيف الطعام للمجاهدين، لم يتقدم لتناول شيء منه سوى شخص واحد، فقد كانت حلوق الرجال يومها ملأى بالتراب من غبار القصف وعجاج الخيل. وكان سلطان، قائد الثورة قد حلّ عصر ذلك النهار في قرية سليم، ذلك لأن أركان الثورة أصرّوا على أن يبعدوه عن خط المواجهة الأول حرصاً منهم على حياته.

مفاجأة عبر منظار عسكري
مع غروب الشمس صعد فضل الله وثلّة من المجاهدين فوق سطح مضافة مضيفهم، وأخذ ينظر من خلال منظاره الحربي ( لم يزل المنظار محفوظاً إلى يومنا هذا لدى حفيده، وراوي مآثره الشاب يوسف في بلدة ملح)، نظر غرباً، ومِنْ حوله استكشف المنطقة المحيطة به، كانت الطريق الممتدة من بصر الحرير إلى مخيم الجيش على عين المزرعة تبدو بوضوح في المنظار، وكانت الطريق ذاتها تمر أمام المضافة التي لجأوا إليها. فجأة رأى فضل الله الأطرش أعداداً لا حصر لها من البغال تنوء بأحمالها وهي تلحق بحملة ميشو الزاحفة للقضاء على الثوار.
لم يصدق عينيه. نظر مجدداً وحدق في المشهد أمامه وقد اعترته الدهشة لما رآه ونسي جوعه، اقترب من جاد الله وهايل سلاّم، حاملاً منظاره الحربي وكان يحدث نفسه بصوت عال ويخاطب في الوقت نفسه الرجال حوله: :« انظروا، يا الله ما هذا؟»
قال له جاد الله: ماذا ترى يا فضل الله؟
قال: «أرى ما لا يُعدّ من البغال بأحمالها تلحق بالحملة، لا بدّ أنها ذخيرة ولوازم الجيش، لو أغرنا عليها الآن لقطعنا ظهر ميشو، ها ها، يا النشامى»!
وهبط من على سطح المضافة وقد تبعه الآخرون.
في المضافة أخذ الرجال يتداولون الأمر على عجل، وكأن الوقت يداهمهم، كان أحد أبطال المجاهدين ممن خبروا الحروب السابقة لبني معروف جالساً متربّعاً بعد أن سدّ جوع ذلك النهار المرهق، وقد أحس بحركة غير عادية في المضافة. سأل: « شو، ما بكم؟
أجابه مجاهد كان نزل لتوه من سطح البناء: البغال الملحقة بالحملة قريبة منا، لو أغرنا عليها لقطعنا ظهر الجيش.
أجابه المجاهد القاعد:«يا أخي نحن مش بقدرة فرنسا، شفنا حالنا وشفناهم، اللي عامل بطل يروح يهجم عليهم ويقاتلهم، معهم جيش حديث وطيارات، ومدافع ودبابات، كلها بتضرب نار». صمت برهة، وخيم صمت ثقيل على الرجال، ثم أردف وكأنه يختصر العبرة:« لأوّل مرة منشوف صخر اللجاة يتحوّل علينا شظايا».
كان الرجل يشير إلى التقدم التقني الهائل للجيش الفرنسي وضخامة عدده وعديده في مقابل الثوار غير المنظمين وأسلحتهم الخفيفة، وكان مجاهدو الجبل مازالوا يستخدمون الخيل في الهجوم كما لو أن الحرب تدور بالسيوف بينما كانت النيران تنهال عليهم من استحكامات منيعة ومن أسلحة رشاشة أو مدافع أو طائرات وكان مؤدى حديثه أن الثورة عمل لا طائل منه وكل ما ينتج عنها هو فقد الرجال والممتلكات.
تحولت أنظار الحاضرين في مضافة نايف نصر من الرجال إلى فضل الله، وكانوا مترقبين لما سيقوله رداً على موقف المجاهد العتيق، وكان فضل الله أقرب الموجودين الى سلطان، وموضع ثقته وكان كل ما يقوله بالتالي يعبر عن موقف قائد الثورة.
لكن فضل الله لم يرد بالكلام، وأبى أن يرد على ما اعتبره موقفاً متخاذلاً. كان جوابه الفعلي أن رفع كفّيته من على رأسه، وثبّتها مع عقاله حول عنقه، وحمل بارودته وخرج ليواجه رتل الإمداد الفرنسي المتقدم عبر الطريق المارة من جانب القرية.
لحق به صديقه جاد الله سلاّم قائلاً: «لَوِينْ يا فضل الله؟»، لكن الرجل كان قد خرج من المضافة باتجاه رتل الإمداد.
في تلك اللحظة توجه المجتمعون في المضافة إلى المجاهد الكبير ولاموه على كلامه المثبط للهمم.
أما فضل الله فكان قد أخذ مكانه استعداداً لمواجهة الرتل، وكان يتابع باهتمام شديد حركة القافلة ويترصّد بين الصخور على جانب من الطريق التي لا بدّ أن يسلكها الرتل المدعّم بحراسة مشددة.
ما إن وصلوا إلى مسافة أمتار قليلة منه صاح بهم بصوت هادر:«ارموا سلاحكم وارفعوا أيديكم».
ردّ أحد الجنود بإطلاق النار في اتجاهه فهجم فضل الله عليه يريد أسره، وهو ما أثار الدهشة والخوف في نفس الجندي. في تلك اللحظة وصل جاد الله سلاّم وأوخوه هايل وقد رفضا أن يتركاه يواجه رتل العدو وحيداً. وكان آخرون من الثوار قد التحقوا بالثلاثة الأوائل، وتمكن الجمع من قطع خط سير الرتل بل وأسروا واحداً وعشرين جندياً معظمهم من المالاغاشي، وأربعين بغلاً محمّلة بالذخيرة والأدوية.
عاد المغيرون بغنائمهم وكان الليل قد خيم. وأمام مضافة أبو فندي نايف نصر، كان ذلك المجاهد الذي حذّر رفاقه من مجابهة فرنسا قد أصيب إصابة خفيفة في فخذه، قال لفضل الله في ما يشبه الاعتذار الخجول: «قرِّب مني، قرِّب. قسماً بالله، إني ما عرفت أنك صاحب رأي الهجوم على الحملة».
رفض فضل الله حجة الرجل وردّ عليه بالقول:«طول عمرك تقدم عذراً أقبح من ذنب، لا فرق بين فضل الله وغيره من بني معروف، كل عمرنا في هذه البلاد نقاتل العدو على مبدأ: «إنطح عند روحك»، ( أي دافع عن وجودك) وأرواحنا على أكفّنا».
تلك الليلة كان مجاهدو قرى المقرن الغربي من الجبل، وأولئك الرجال الذين سبق لهم أن توزعوا عصر ذلك النهار في قراه المتاخمة لخط سير الرتل الفرنسي البالغ طوله كيلومترات عديدة، قد استعذبوا تلك المبادرة الجريئة التي أقدم عليها رجال مضافة نايف نصر، فانقضوا على إمدادات جيش العدو واستولوا عليها، ووصلت البشارة عند منتصف الليل إلى سلطان في سليم، وقد نقلها إليه عبطان النجم وفرحان زيتونة.
استبشر سلطان ومن معه من أركان الثوار خيراً بالسيطرة على رتل إمداد العدو وكان إنجاز فضل الله ورفاقه سبباً مباشرة في صدور الأوامر من قائد الثورة بشن هجوم مباغت على الفرنسيين في فجر اليوم التالي، فكان يوم نصر المزرعة التاريخي الذي ضعضع خطط الفرنسيين الحربية وكسر معنوياتهم وعنجهيتهم.

” عرض الكابتن الفرنسي ساعته وخاتمه كبادرة شكر فانتفض فضل الله وأجابه: أنا عفوت وروح أســــيري أغلــــى عندي من كل شــيء “

دار-المجاهد--فضل-الله-الأطرش-في-ملح-بعد-انتقاله-من-عرمان
دار-المجاهد–فضل-الله-الأطرش-في-ملح-بعد-انتقاله-من-عرمان

فضل الله الجريح يأسر ضابطاً
في معركة عرى التي هزم فيها الثوار استشهد نسيب الأطرش شيخ بلدة صلخد المقرب من سلطان، وكان رجلاً من كبار ثوار بني معروف الذين يجمعون بين الفروسية والخبرة الفطرية بالشؤون السياسية والاجتماعية، وكان أكبر منه سناً، وكان سلطان يخاطبه احتراماً بكلمة «عمي» فهو إلى جانبه منذ انطلاقة الثورة وصاحب رأي يؤخذ به في الملمات.
في تلك المعركة ألقت الطائرات الفرنسية حمماً من القنابل على المجاهدين، فأصيب فضل الله بإحدى عشرة شظية، أشدّها كانت في خاصرته اليمنى، وقد جاءت هذه على آثار جرح قديم كان قد أصيب به قبل نحو اثني عشر عاماً في مواجهة مع البدو. كان جرح الخاصرة مؤلماً جداً وكان ينزف دماً باستمرار وكان بمثابة حفرة فاغرة في جسد البطل، لكن فضل الله قررالتجالد على جراحه والسعي في تلك اللحظة للانتقام من الفرنسيين، فعصب على الجرح بكوفيته واستعد للقيام بعمل ما.
قبل ذلك كان سلطان باشا الذي رآه مصاباً بجراح قد نصحه بأخذ قسط من الراحة في عرمان على ان يعود بعد تعافيه، لكن فضل الله رفض، إذ لم يكن هذا البطل يكره شيئاً مثل القعود والبعد عن مقارعة المحتل.
نادى رفيقه في الجهاد سليم الدبيسي، المجاهد الذي كان في معركة عرى يقاتل بالقرب منه، فأعطاه لجام فرسه قائلاً له:«عد بفرسي هذه إلى عرمان إن بقيتَ حيّاً» ثم تركه واتجه غرباً باتجاه مواقع الفرنسيين التي كانت تصب نيرانها على الثوار المتمترسين خلف الصخور في وضع دفاعي حرج».
دهش الدبيسي وهو يرى زعيم قريته مستميتاً للقتال وهو مثخن بالجراح، واعتبر سلوكه نوعاً من الانتحار العبثي. فناداه صائحاً به:
ـــ ما بك، أجننت يا رجل؟
إلتفت إليه فضل الله وقال:
ــ أنا بكامل عقلي، إفطن لما أقول، وأشار بيده: ذاك الشرق، وهذا الشمال، وهذا الجنوب، وهذا هو الغرب، وأدار ظهره لصاحبه، وانطلق ببندقيته، متسللاً بين أكوام من الحجارة والصخور متّجهاً غرباً، وهو يطلق النار باتجاه الجيش الفرنسي، لا يكترث لكل ما يواجهه من أخطار. في هذا الوقت اتجه سليم شرقاً مع جماعات الثوار المنسحبين إلى التلال المشرفة على قرية رساس ليمنعوا توغل الفرنسيين باتجاه المرتفعات التي تسهل سيطرتهم على الجبل.
تمكّن فضل الله بمناورته وإصراره على فِعْل شيء ما، من التغلغل في جبهة القوات الفرنسية، والتي كانت تربكها مقاومة الثوار ومدفعيتهم التي كانت عبارة عن ثلاثة مدافع غنموها من الفرنسيين.
استطاع فضل الله أن يتخفّى بحيث يرى ولا يُرى، تربّص في مكانه لا يتحرك، وعندما شاهد سيارة تاكسي سوداء ترفع العلم الفرنسي ومن خلفها سيارة جيب، كان الكابتن في التاكسي يجلس خلف السائق، اعتبر أن هذه فرصته لينتقم ويثأر لابن عمه نسيب، شدّ الأسد الجريح عقدة كوفيته فوق عقاله، وتركهم يتقدّمون إلى أن صارت المسافة بينه وبينهم نحو مترين، هبّ عندها في وجههم وكأنه مارد انبثق من بطن الأرض، وصاح بهم آمراً أن لا يبدي أي منهم حركة أو يقتل.
أُخذ السائق والضابط لهول المفاجأة غير المتوقعة، فهما كانا يظنان أنهما في أرض مسيطر عليها من قبل قواتهم، لم يبديا حركة، ومن سيارة الجيب خلفهما قفز جنديان اثنان لكنه كان أسرع منهما في المبادرة، فقتلهما قبل أن يتمكنا من إطلاق النار عليه، وصوّب على السائق الذي جمد وراء مقود سيارته، وكان فضل الله منذ مطلع شبابه قنّاصاً يصيد الطائر بالتسديد عليه إلى الخلف مستعيناً بانعكاس صورته أمامه في مرآة!، ولم يشأ أن يفرّط بما لديه من الطلقات، فكانت عيناه مركّزتين على صيده الثمين، وكان بإمكانه أن يقتلهما ويعتبر نفسه أخذ بثأر ابن عمه نسيب، واستوفى، لكن إلهاماً جعله يقرر الاحتفاظ بهما، وكان يرقب أدنى حركة تصدر من الرجلين في السيارة، وهنا رجاه السائق متحدثاً بالعربية:
ــ « دخيلك لا تقتلني، أنا سوري من حمص».
كان الكابتن في مقعده الخلفي يرتعد خوفاً، أمر فضل الله السائق:
« قل له أن يرمي مسدسه على أرضية السيارة وينزل يركب حدّك».
نفّذ الكابتن الفرنسي الأمر فأمر فضل الله السائق أن يرمي بمسدّسه هو الآخر على المقعد الخلفي ثم تقدم وجلس خلف السائق ومسدسه مصوّب على رأسيهما. وقد تناول بيسراه المسدسين ودسّهما في عبّه، وأمر السائق أن يناوله مفاتيح السيارة ورجع باتجاه الجيب، فوجد فيها ثلاث بنادق، تناولها مع ثلاث من جعب الذخيرة، ومطرات الماء، كانت إحداها ملطخة بالدماء وعيناه على صيده في التاكسي.
رجع إلى محله خلف الرجلين، ناول السائق مفتاح السيارة، وأمره بالتقدم شمالاً باتجاه قبر البكوات (وهي مدافن المشايخ الأطارشة من دار الإمارة في عرى)، وهو الذي يعرف المكان جيداً، كان ينوي ضرب الحاجز بمن معه من الرهينتين اللذين في السيارة، وكان الفرنسيون قد أقاموا موقعاً عسكرياً في المكان، اقتربت السيارة من الموقع، ورأى الحارس السيارة التي ترفع العلم الفرنسي فحيّاهم، وتراجع إلى الخلف مطمئناً، ومضى باتجاه دشم الخيرة، ولم يردّ الكابتن التحية.
على يمين السيارة كانت طريق ترابية تتجه شرقاً باتجاه قرية رساس، في تلك اللحظات الحرجة خطر ببال فضل الله أن يتجه برهائنه عبرها، وكان يلتفت بين حين وآخر إلى الخلف خيفة أن يتبعه العدو من جهة عرى.

” قال الكابتن الفرنسي ناصحاً: في سوريا لا يقاومنا أحد سواكم، وستقضي فرنسا أخيراً على ثورتكم، وحرام أن يقضى عليكم، فأنتم لا تســــتحقون الأذى “

كان-الجو-متوترا-وبدا-أن-البدو-لم-يكونوا-مرتاحين-لوجود-سلطان-ورفاقه-في-مورد-الماء
كان-الجو-متوترا-وبدا-أن-البدو-لم-يكونوا-مرتاحين-لوجود-سلطان-ورفاقه-في-مورد-الماء
مفاجأة في رساس
اقتربت السيارة من أراضي غرب رساس، كانت لم تزل ترفع العلم الفرنسي، شكّ الثوار بأمرها، فأخذوا يطلقون الرصاص عليها، خاف فضل على حياته وعلى حياة رهينتيه، أمرهما أن ينزلا وينبطحا أرضاً من جانب السائق عند باب السيارة، أما هو فنزل خلفهما، وانبطح أرضاً، وربط كوفيته السوداء بفوّهة بارودته، وأخذ يلوّح بها بين آونة وأخرى أثناء هجوم الثوار، ومع تواصل تلويحه لهم بالكوفية توقف إطلاق الرصاص، وسمع فضل الله الثوار المتقدمين نحوه يقولون لبعضهم:«لا تطلقوا النار، لقد سلّموا»!.
في تلك اللحظة؛ هبّ فضل الله واقفاً، ونزل الثوار عن خيولهم مذهولين، وأخذوا يقبّلونه وهم يقولون: أما ذهبت إلى عرمان؟، كيف صبرت على جراحك؟
أجابهم مازحاً: الباشا بسلامته يريد أن يبعثني إلى عرمان على ظهر الفرنسيين، ها هم قدموا لي «تاكسي وكابتن مرافق»!.
إتجه فضل الله بالسيارة والسائق والكابتن جنوباً بعد أن ودّع الثوار، ومن رساس انطلق بهم إلى القريا، ومنها باتجاه الجنوب، كان في طريقه إلى عرمان، ومقابل مزرعة نمرة، قبل مفرق بصرى صارت عيناه تقمّران (أي تغبّشان فلا يرى بوضوح)، وشعر بدوخة،  حدّث نفسه:»يا إمام الزمان، في الحرب سَلِمْت ولم أُقتل، والآن إن غبت عن الوعي فقد أصبح أسيرهما، فيتجهان بي إلى بصرى» وسلّم أمره.
في تلك اللحظة ظهر أمامه شابان يافعان أحدهما في السابعة عشر من عمره أو نحوها، والثاني لا يتجاوز الرابعة عشر، كان الفتى الصغير حافياً، وكانا يتجهان جنوباً أمر فضل الله السائق أن يتوقف عندهما، وناول الشاب الكبير بارودة مما غنمه، قائلاً له: راقبهما وترجّل من السيارة، ثم أردف: «هذا كابتن فرنسي أنا أسرته، لا تغفل عنهما، أنا جريح وأُحس بدوخة».
أمسك فضل الله مطرة الماء، لقف منها بعضه على وجهه، فَتَرَوْحَن وتمضمض، وحمد ربه وقال للشابين :
– إلى أين طريقكما ؟
– إلى عند عمتي إلى بكا.نحن من قرية جديّا من آل الحسين .
أركبهما فضل الله جانبه في السيارة إلى بكا ، وهناك ودّعهما بعد أن تناول بارودة مما غنمه وأهداها للشاب، وتابع المسير باتجاه عرمان.
مظاهرة إبتهاج ليلية في عرمان
كان الليل قد لفّ بلدات وقرى الجبل الثائرعندما أقبل ضوء السيارة إلى عرمان هب أهل عرمان للحدث المجهول، إذ لا ضوء سيارة في ذلك الزمن إلاَ لمسؤول فرنسي كبير، وما إن وصلت السيارة إلى ساحة عرمان، وعُلم من بداخلها، حتى حمله شباب عرمان مبتهجين، يروي فضل الله:«وحدا بي شباب عرمان، وغنّوا، لكن جراحي كانت تؤلمني وهي لمّا تزل تنزف وهم يحملونني غصباً عني معتزين بي».
كان سليم الدبيسي قد وصل مساء بفرس فضل الله إلى عرمان، ولكنه لم يجرؤ على أن يذهب إلى الشيخ نجم أخي فضل الله ليخبره بما أقدم عليه أخوه من مغامرة اقتحامه مواقع الجيش الفرنسي،  فأعطى الفرس لأخيه محمد الدبيسي، وطلب منه أن يوصلها لبيت نجم ويبلغه أن أخاه فضل الله يفداك(أي قتل)، لكن محمد تهيّب من إبلاغ نجم بمقتل أخيه، فتريّث وكان يريد جمع أقاربه ليذهبوا وفداً ويبلغوا الشيخ نجم باستشهاد فضل الله. غير أنه لما شاع نبأ عودة فضل الله حياً، وعلم محمد بالأمر، هجم على أخيه سليم الذي كان يغط في نومه متعَباً مغموماً من مجريات يومه في مواجهة الفرنسيين في رساس،  شده من شعره الطويل وقال له:
«الله لا يوفقك يا خريب البيت، كدت أن تورّطنا مع الشيخ نجم، قوم شوف فضل الله عاد سالماً وكسب سيارة، وجلب معه أسيرين».
هبّ سليم من نومه، ومشى كالممسوس تتناوبه حال من ذهول ودهشة وفرح بعودة صاحبه فضل الله سالماً، وانطلق إليه ليهنئه بعودته المظفّرة.
الكابتن جان؛ في سجن مضافة الشيخ
وضع فضل الله شخصين، حَرَساً على الكابتن الأسير، أحدهما أبو فوزي يوسف صيموعة، وأوصاهما أن يحذرا من هروبهما، وأن يحافظا على حياتهما من انتقام ما. قال لهما:» تناوبا على حراستهما، لا تناما قبل نومهما، واستيقظا قبلهما…
كان الكابتن وسائقه يعاملان كضيفين في مضافة الشيخ، وبقيا فيها مدة ثمانية وعشرين يوماً، ومنذ نزوله المضافة استخرج الكابتن حقيبة طبية من السيارة وأمر السائق أن يداوي جراح فضل الله، ويعتني بأمره.
بعد نحو خمسة وعشرين يوماً جاء الأمير حسن الأطرش ومعه أحد وجهاء عرمان من الثوار بتكليف من الصليب الأحمر، قال الأمير حسن لفضل الله:«أبلغنا الفرنسيون بأنْ سلِّمونا الكابتن إذا كان على قيد الحياة لنسلمكم الأمير حمد الأطرش ومعه بعض الأسرى من الثوار، ولديكم فرصة ثلاثة أيام لتبلغونا موافقتكم».
أحسّ الكابتن بارتياح عارم، إذ أدرك انه سيتم الإفراج عنه قريباً، وعاد الأمير حسن وصاحبه ليبلغوا الفرنسيين بأن الكابتن لم يزل حيّاً ويلقى أفضل معاملة.
كان الكابتن أثناء أيام أسره يراقب ما يجري في سجنه الحضاري، مضافة بني معروف، حيث تُجرى المناقشات في مسائل الناس العامة، وحيث يتم حل المشاكل والخلافات بين المواطنين، وبين المواطنين والبدو، فيترجم له السائق كل ما يجري أمامه، فيخبط الكابتن على ركبتيه ويقول « آه من فرنسا التي تحارب هؤلاء الناس المتحضرين».
قال الكابتن مرّة للحمصي: « أريد أن أنفرد بفضل الله خارج المضافة لوحدي فالمضافة دوماً ملأى بالزائرين ».
نزل الرجلان ومعهما المترجم إلى غرفة تقع تحت المضافة في الدار؛ جلسا على انفراد والمترجم الحمصي يترجم، قال الكابتن:«أنت عفوت عن روحي، ومن واجبي أن أقدّم لك ما أملك، ساعتي وخاتمي».
جفل فضل الله وقد فاجأه العرض، قال بإباء:«أنا عفوت، ولست بحاجة لساعتك وخاتمك، وروح أسيري عندي أغلى منهما».
لم يكن الكابتن يتوقع رفض فضل الله لعرضه وقد فوجئ بأنَفَة آسره ورفضه لما اعتبره مكسباً ماديّاً رخيصاً فردّ عليه بالقول:
«بما أنك عفوت عني، لك عندي موقف عظيم جداً، وسأرشدكم أنتم الدروز إلى طريق الخلاص، لكن أرجوك ألاّ تفهم بأنّني أخون بلدي، لئن أخذتم بنصيحتي فسوف تخلصون من ورطة محاربة دولة عظمى كفرنسا، ومن دون أن ترقى نصيحتي هذه إلى خيانة بلدي، فقبل أن تأسرني بمدة أحد عشر يوماً ، كنت أنا من جملة ضباط فرنسيين وبريطانيين وقّعنا على معاهدة لضبط الحدود السورية لصالح دولتينا.
ما المعنى
يعني هذا أن يتوقف وصول أي سلاح ومساعدات تأتي إليكم من الأردن وفلسطين. خلاص: هذه  ليست مزحة، بل اتفاق بين دولتين عظميين، فلا ذخيرة ولا بارودة ولا عواض لكم. في المقابل يحق لفرنسا بموجب ذلك الاتفاق أن تجلب إمدادات من كل المستعمرات التي تسيطر عليها في الشرق وفي الغرب، فمن أين يا دروز سيأتيكم الإمداد؟ وها نحن نقاتلكم بأبناء عمكم، المرتزقة،
( يقصد السكادرونات وهي قوات عسكرية من شباب الدروز الذين سلّم أهلوهم بالسيطرة الفرنسية على سورية). وأضاف: مطلبي الأخير منك أن تقسم لي يميناً بالشرف العسكري ثلاثاً، ألاّ تخبر بحديثي هذا شخصاً آخر غير سلطان، وأرجوك أن تطلب منه قَسَمَاً مثلّثاً وأن يعمل بنصيحتي». فوافقه فضل الله على طلبه.
كان الكابتن بين حين وآخر يرجو فضل الله ألاّ يفهمه خطأ، وإنما هو باح له بالإتفاقية كنوع من العرفان، ورد الجميل، قال:«إنني أقدم لك هذه النصيحة التي لا ترقى إلى درجة الخيانة، وها نحن في سوريا لا يقاومنا أحد سواكم، وستقضي فرنسا أخيراً على ثورتكم، وحرام أن يقضى عليكم، فأنتم لا تستحقون الأذى».
من الواضح أن الكابتن كان يحذّر بني معروف الذين احترمهم وينصحهم بالالتحاق بإمارة شرق الأردن، وهو الأمر الذي لم يقبل به سلطان، ولا غالبية بني معروف، وهم ظلوا على موقفهم من طرد الفرنسيين من سوريا إلى أن تحقق الاستقلال.
بعد أيام جاء رجال من قبل قيادة الثورة، وتسلّموا الكابتن الأسير من فضل الله، وقد ودع الكابتن فضل الله باكياً عرفاناً منه بجميله عليه، وخَيّرَ فضل الله السائق الحمصي السوري بين البقاء مع الثوار، أو الذهاب مع صاحبه الكابتن، فاختار البقاء مع الضابط الفرنسي.
وكان فضل الله في تلك الفترة قد شفي من جراحه إلى حد ما، وكان ينتظر بلهفة ليعود إلى صفوف الثوار.
وصاحت-المرأة-العجوز-مين-منكم-فضل-الله
وصاحت-المرأة-العجوز-مين-منكم-فضل-الله

فضل الله مع سلطان
عندما وصل فضل الله إلى سلطان، كانت عملية تبادل الأسرى قد تمت، ولكن سلطان هزأ من نصيحة الكابتن، وقال لفضل الله:
«قبل أيام طرقناهم، وخسّرناهم في عدة مواقع، نحن لن نذهب جنوباً ( يعني بذلك إلى الأردن)، وسنبقى على صدورهم ونقلق راحتهم إلى أن يخرجوا من بلادنا».
لكن سلطان اعترف في معرض الحديث بأن شيئاً ما تبدل في مجرى الثورة. قال لفضل الله: «ولك يا فضل الله، من أيام، لا عايد ( عايد هذا هو رجل بدوي كان يتاجر ببيع السلاح للثوار) ولا أحد من البدو الذين كانوا يأتون إلينا من ناحية فلسطين والأردن، ويبيعون لنا السلاح والذخيرة، ما عدنا شفنا أحداً منهم».
قال فضل الله: نحن بمعيتك يا باشا، سواء بقينا هنا، أو ذهبنا للأردن.

فضل الله في معركة قيصما
بعيد معركة الصوخر، انتقل الثوار إلى قيصما، أدرك نجم أخو فضل الله أن الفرنسيين الذين كانوا يتتبعون حركة الثوار علموا بانتقالهم إلى قيصما، تلك القرية التي تقع في الجانب الجنوبي الشرقي من الجبل، وخشي من أن يباغتهم العدو وهم غافلون، فما كان منه إلاّ أن كتب على ورقة صغيرة ما يلي:«قل نذير ولا نَبي منكم جمايل»، ( أي أنا أحذّركم دون منّة)، وطوى الورقة بحيث لا تثير شبهة في ما لو وقعت بيد أحد ما، وأعطاها لخادمه، وحفّظه كلماتها، وأوصاه: «اذهب إلى فضل الله في قيصما، وأعطه هذه الورقة، ولئن فقدتها فأبلغه الكلمات».
مع وصول الرسول والرسالة أدرك فضل الله سرّ التحذير، وأن الفرنسيين علموا بوجودهم، فأبلغ سلطان الذي قال له:«شو عرّفك؟».
ناوله الورقة وقال له:» هذه رسالة وردتني مع خادم دارنا، بعثها أخي نجم».
قال سلطان:«ما فهمت على أخيك نجم».
فأوضح له فضل الله أن العبارة مأخوذة من جوفية (نوع من الحداء النجدي من ديار الجوف)، وفيها :
يا راكبـاً من فوق طوع الراس حايــل
بَــكــــرَةً هـــي منـــوة الطـــــــــارش معنّـــــى
سلّموا عَ الساكنين قصور حايل
وان لفيتوا حْمُوْد ردوا العلم منّا
قُل نذيـــــر ولا نــبي منــكم جمايــــل
الهرب يا تايهــــين الشـــــور عنّـا
وبيّن فضل الله لسلطان أن هذه قصيدة نذارة قديمة من التراث البدوي، وأن نجم يريد من خلالها أن يبلغ الثوار أن الفرنسيين علموا بوجودهم في قيصما، وعليهم أن يهربوا من مواجهتهم، فهم في نظره لا قدرة لهم على مواجهتهم، ومن الواضح أن نجم في هذه الوصية ينتقد سلطان، ومن معه من الثوار، ويستخدم النعت الوارد في الحداء لوصفهم بفساد الرأي (تايهين الشور)!.
هنا، قال سلطان لفضل الله:«إذا كان أخوك نجم يريدنا أن نهرب، ما في هرب. إن إجوا بكرة، لنا ولهم الله، والتفت إلى من حوله من أركانه المقربين:« حسّنوا استقاماتكم (متاريسكم) على خشاع حمد (هي مواقع صخرية مشرفة على ما حولها من الأرض) والمستعان بالله».
يروي فضل الله:«مع بزوغ الضوء نهضت، أمسكت بمنظاري متوجّساً، فأبصرت اسكادرونات ( أي سرايا عسكرية تابعة للفرنسيين)، للوهلة الأولى، كان الثوار نائمين لكن بلباس الميدان، لحظتها كدت أعرقل خوفاً، لقفت ماء على وجهي من طاسة المضافة المطلة على ما حولها، فعدت رجلاً، وصحت بمن حولي منذراً إياهم، كان سلطان في موقع قريب منّا يصيح بالثوار الذين أخذوا كامل أهبتهم للمواجهة:
«عَ الخيل»، (أي أنه يريد من الثوار أن لا يطلقوا رصاصهم على الرجال بل على خيولهم، ذلك لأنه يعلم أن غالبية خيالة الإسكادرونات هم من أبناء الدروز الذين سلّموا بالحكم الفرنسي، وهو لا يريد أن تكون مذبحة فيهم».
بعد معركة قيصما كان الثوار منتشين بنصرهم، وقد أسروا ضابطاً فرنسياً هو الملازم «سيكر» وابتهج أهالي قرية قيصما بنصر الثوار، وبأسرهم الضابط الفرنسي، فأولموا لهم، ولما لم يكن من مضافة تتسع للعدد الكبير من المجاهدين، فقد قدموا لهم مناسف الطعام على سطوح المنازل.
كان سلطان يغسل يديه بعد الأكل، وهو في هَمّ نقص الذخيرة والسلاح لتوقف البدو الذين كانوا يمدون الثوار بما يلزمهم منها من فلسطين والأردن، التفت إلى فضل الله ودعاه أن يقترب منه، عندها قال له:
«رَح نرجع لرأي زلمتك ( يقصد أسيره الفرنسي الكابتن جان)، عَبِدَرّجنا تدريج، ( أي إنه تنبّأ بما نحن فيه)، بكرة (أي غداً) منعمل اجتماع بالدّبّاكية ( مغارة قديمة على مسافة نحو اثني عشر كيلومتراً شرق ملح، شرقي الجبل، في خلّة من الأرض تدعى«خلّة البراقية»)، ومن يرغب أن يسلّم لفرنسا من الثوار ويقبل بالعيش تحت البنديرة الفرنساوية ( يعني علم فرنسا) فهو حر، ومن يحب أن يبقى معنا وينتقل جنوباً للأراضي الأردنية فأهلاً وسهلاً.
بعد الغداء المتأخر على سطوح قرية قيصما هبّ رجلان من أهل قرية الهويّا القريبة من قيصما، هما أبونايف حسين العطا لله، وأبو حمد هلال البربور قائلين:
«نرجوكم يا باشا، قبل ما تروحوا بكرة ( أي غداً) إلى الدبّاكية غداكم أنتم والجميع عندنا في الهويا»، وأصرّ الرجلان على دعوتهما، فوعدهما.
أما فضل الله وأهل عرمان ( بلدته)، فقد غادروا إلى عرمان القريبة من قيصما إلى الغرب منها بعدة كيلومترات على أمل الحضور في اليوم التالي إلى الهويّا، في حين توجه سلطان والثوار الآخرون ليناموا في الهويّا، وبقي فريق آخر من الثوار في قيصما على أمل أن يحضروا في اليوم التالي إلى دعوة الغداء في الهويا.

كانت-مدفعية-الفرنسيين-وطائراتهم-تقصف-الثوار-بعنف
كانت-مدفعية-الفرنسيين-وطائراتهم-تقصف-الثوار-بعنف

” قال سلطان لفضل الله: سنأخذ برأي زلمتك (الكابتن جان) وسنرحل إلى الأردن ومن أراد العيش في ظل علم فرنســــا فالأمر يعود إليه  ”

ياديرتي مالك علينا لوم
في اليوم التالي توجه فضل الله إلى الهويّا مع فريق من ثوار عرمان منهم المجاهد نجيب رزق، وباتجاه الهويا عبروا من قرب خربة خضراء شرق عرمان، وفيما هم مقدمون إلى الهويّا على ظهور خيولهم طلع فضل الله بالحداء الذي مطلعه:
«ياديرتي مالك علينا لوم..لا تعتبي لومك على من خان»، والذي غنّته في ما بعد المطربة أسمهان، وكان نجيب رزق بصوته الجهوري ومن برفقتهم من فرسان عرمان يرددون الحداء من بعده.
كان الثوار قد توزعوا في الهويا بين مضافتي حسين العطا الله ومضافة هلال البربور، وكان سلطان وفريق من الثوار، ومنهم أخوه الفارس الشاعر زيد ضيوفاً في مضافة حسين العطا الله، وعلى صوت حداء فضل الله وفرسان عرمان «ياديرتي مالك علينا لوم» أطل زيد من شباك المضافة المشرف على القادمين وأشار بيده مستفهماً، أي من هو ناظم هذا الحداء؟ فأشار له فضل الله أنها له، وأنها ولدت الآن، أي اليوم. ويؤكد الشاب يوسف الأطرش، وهو حفيد المجاهد فضل الله أن هذا الحداء هو أصلاً لجده وإن تنازع عليه المتنازعون، وأن في مذكرات علياء المنذر والدة فريد وأسمهان ما يدعم حجّته.

فضل الله في العمري
(من يفعل الخيرَ لايعدم جوازيه
لايذهب العُـف بين الله والناسِ)
بنتيجة الاتفاقية التي وقعت بين بريطانيا وفرنسا تلك الاتفاقية التي كشف عنها الكابتن جان لفضل الله الأطرش، انقطعت الإمدادات التي كانت تصل للثوار، واضطر سلطان العنيد (كما وصفه الجنرال أندريا)، المصرّ على استقلال سوريا أن يلجأ إلى بادية الأردن ونجد في السعودية مع من رافقه من الثوار السوريين واللبنانيين الذين كان في طليعتهم الأمير عادل أرسلان وغيرهم.

اجتماع متوتر مع البدو
كان سلطان ومرافقوه مخيّمين في موقع العمري، وهو عبارة عن بئر ماء في البادية تتوارد إليها القبائل لإرواء مواشيها، ولما كانت هناك ثارات سابقة بين بعض تلك القبائل وبين بني معروف، بسبب التنازع التاريخي بين الحضر والأعراب، فإن العديد من رجال القبائل قلبوا كوفّياتهم التي يضعونها على رؤوسهم، وهذا كناية عن إظهار المجافاة والعداوة وعدم الرضا عن وجود الثوار في هذا الموقع الحيوي الذي يعتبرونه ماء خاصّاً بهم.
كان الثوار مسلّحين، والبدو كذلك، واحمرّت العيون من الجانبين، وهنا ارتأى أحد كبار زعماء قبيلة بني صخر أن يدعو الثوار للعشاء كمبادرة للتقارب ولتناسي الماضي، ولا بدّ أن الزعيم القبلي كان يقدر أن الثوار اضطروا إلى اللجوء إلى ذلك المكان بسبب وطنيتهم واضطهادهم من قبل عدو دخيل على بلاد العرب.
قَبِلَ الثوار الدعوة على حذر وترقّب لما سيحدث، كانت بواريدهم بأيديهم معمّرة، وجلسوا ( خَلف خلاف) أي ظهراً لظهر خوفاً من أن يباغتهم عدوٌّ ما من الخلف، وقد حضر عدد قليل من وجهاء البدو، وكانوا ملثّمين بحيث لا تبين من وجوههم إلاّ العيون!.
لكن خلف وقف يرحّب بالثوار، «يا هلا بكم، يا هلا بسلطان وفضل الله».
ما إن لفظ خلف اسم فضل الله حتّى انطلق صوتٌ مدوٍّ مديد لامرأة بدوية عجوز:«أخللللللف»
لم يعبأ خلف بنداء المرأة، وتوجه للثوّار يريد ترطيب الموقف الذي يسطر عليه الوجوم والجفاء، وقال:« يا النشامى، نريد الحديث» أي إنه يريد من يتكلّم منهم.
لكن من يتكلّم في هذا الموقف؟، وسلطان قائدهم، ولن يتكلّم أحد قبله، وسلطان رجل قليل الكلام، والموقف في نقطة ما منه على حافة من دم وهاوية مبهمة…
لم تنتظر المرأة جواباً من خلف، فقد دخلت مقعد الرجال الذين ضاق بهم فسطاط الشيخ خلف فجلسوا أمامه في الفناء الواسع الممتد على رمال البادية، تجاوزت العجوز الجالسين حتى وقفت في مواجهة خلف، قالت له بصوت مدوٍّ:«من هو فضل الله من الطرشان»؟
قال خلف:« ما بو غيره»، أي ليس من أحد بإسمه هنا سواه، كان خلف يريد أن يختصر الكلام معها، ويتخلص مما أقدمت عليه من تجرّؤٍ لم يدرك معه مقصدها.
قالت:« أهو فيد عرمان؟»، أي: أهو من عرمان؟.
قال خلف:«إي والله، هو فيد عرمان».
هنا، نفد صبر المرأة، فأزاحت أخاها من كتفه، ووقفت في مواجهة مَنْ في المقعد من الرجال، وصرخت بصوت يشوبه قدر كبير من جفاء البداوة وسجيتها:
ــ يا دروز، من هو فضل الله منكم؟.
وقف فضل الله الذي كان يجلس قريباً من سلطان، وقال:« علامك يا عجوز؟» أي: ماذا تريدين؟
هجمت عليه متخطّية الرجال، ويروي فضل الله أنه رعب في تلك اللحظات الحرجة، وما إن وصلت إليه حتى وضعت يدها على كتفه، وبيدها الأخرى وضعتها على قفا رأسه، وطبعت قبلات على جبهته وعلى شاربيه ثم ابتعدت منه خطوة، وقالت:
«وحياة محمد (هي تقسم بمحمد رسول الله صلى الله عليه وسلّم)، الغلام اللي فكّيت روحه يوم الباير (هنا تقصد أن فضل الله أنقذ حياة ابنها في موقعة الباير، والباير هذا اسم مكان في الصحراء)، هو وحيدي، مالي غيره، هو وحيّد على أربع بنيّات، وهو اليوم بيّات في البريّة مع البوش( أي الإبل)، وباكر( أي غداً) هو يجيْ ويحب على رأسك ( أي يقبّل رأسك)» .

من-مضافات-عرمان-القديمة
من-مضافات-عرمان-القديمة

البدو يكرمون فضل الله
من الواضح أن البدوية العجوز لم تنسَ جميلاً قديماً صنعه فضل الله مع ولدها قبل الثورة، إذ كان عدد من فرسان عرمان يتعقّبون غزواً بدويّاً أغار على مواشيهم وفرّ بها إلى الصحراء، وقد لحق الفرسان بهم، وبينما كان بعضهم يمسك بإبنها الشاب، من جدائل شعره، أقبل عليهم فضل الله، وأنقذ الشاب من أيديهم، وسمعهم الفتى وهم يقولون «هذا فضل الله أخو نجم»، فأدرك الفتى البدوي أنه اسم الرجل الذي أنقذ حياته. كانت فرسه قد قتلت تحته، فعجز عن الهرب، وقد تركه فضل الله يعود لأهله حيّاً، ولم يطلب من وراء ذلك مكسباً.
دهش الحاضرون لأمر العجوز وابنها، وأكبروا شهامة فضل الله ونبالته، وأخذ الحاضرون من البدو يطلقون النار في الهواء وحملوا فضل الله مبتهجين، ورحّب البدو الحاضرون بالثوار من جديد، وأفاضوا في الأيام التالية بالولائم والذبائح تكريماً لبني معروف وشيمهم العربية الأصيلة.
كان نهار بن جلباط ابناً لأحد زعماء عشيرة الزَّبْن، وهم شيوخ قبيلة بني صخر، هو نفسه الغلام الذي وقع بيد فرسان عرمان عندما كان في الخامسة عشر من عمره يوم وقعة الباير، لكنه اليوم أصبح شابّاً بالغاً في مطلع العشرينيات، هجم على فضل الله وأخذ يقبّل رأسه:
«أنت فكّيت رقبتي من عزرايل».
وهكذا أخذ الشاب نهار يتابع فضل الله كيفما اتجه، كما صار يدعوه بلقب «عمّي» تقرّباً منه، واعترافاً بفضله، ويأتي له وللثوار بجمال محمّلة زاداً وكثأ، ويجالسه كإبن بار بأبيه.

فضل الله وحملة الشيشكلي
كان ثوار بني معروف قد عادوا أعزاء بعد اثني عشر عاماً أمضوها في المنافي في بوادي الأردن، وصحراء نجد في السعودية، وقد ظلوا بالتعاون مع القوى الوطنية في داخل سوريا يشكلون ضغطاً اجتماعيّاً وسياسياً على سلطات الاحتلال الفرنسي إلى أن اعترفت باستقلال سورية ولبنان عام 1936، وعندما اجتمع الثوار في عمّان تمهيداً للعودة إلى سورية، أيد سلطان باشا تبديل تسمية «جبل الدروز» (كما كان يدعوه العثمانيون) بتسمية «جبل العرب»، لكن في العام 1954 عمد الضابط الانقلابي أديب الشيشكلي إلى مصادرة الحريات وفرض على البلاد حكماً دكتاتورياً مستبداً.
أرسل الشيشكلي قواته إلى جبل العرب بهدف اعتقال سلطان، ووأد الحركة الوطنية المطالبة بالديموقراطية في سوريا، واضطر سلطان لمغادرة سوريا، ولم يكن أمامه من خيار سوى اللجوء إلى الأراضي الأردنية، وتجنب المواجهة مع قوات الجيش السوري المرسلة لاعتقاله حقناً لدماء الجيش والمواطنين على السواء، ولكن القوات التي أرسلها الديكتاتور المستبد ارتكبت فظائع بحق مواطني السويداء.
كان فضل الله حينذاك مريضاً لا يقوى على مغادرة فراش مرضه، فوقع تحت رحمة جند الشيشكلي المكلّفين بالتنكيل ببني معروف، جاءه رقيب وهدده:«نقتلك أو تعطينا معلومات عن نشاطات سلطان وتحرّكاته».
قال له فضل الله:«من حقكم أن تفعلوا بنا ما تشاؤون، بل وأكثر من ذلك بكثير، فنحن من حررنا سوريا لتستلموها غنيمة باردة، لقد وصلت حوافر خيولنا في مقاتلة الفرنسيين إلى غوطة دمشق وراشيا وحمص وحماة وحلب، وهذا عملكم مكافأة لنا».
أجابه رقيب الشيشكلي معارضاً إياه:« أأنتم كنتم تدافعون عن تلك المناطق؟، لا والله، بل كنتم تدافعون عن الأبقار التي تحرثون عليها، أعطني اسم ثائر واحد من الغوطة إن كنت تعرفه. أنتم الدروز كل واحد منكم صار يعمل من نفسه ثائراً».
قال له فضل الله: اسمع يا بني وسجل عندك إذا كنت تريد أن تعرف حقيقة جهاد بني معروف، هذه أسماء بعض من عرفتهم من رفاق الجهاد في معارك غوطة الشام أيام الثورة التي تنكر جهدنا فيها، وها هم: «محمد المهايني وعبد الغني نجيب وحسن مقبعة وحسن الخراط وأبو عبدو الشيخ وشوكت العائدي وأولاد الأظن وخيرو اللبابيدي، وشخص من آل السمّان، غاب اسمه من بالي، والسمان هذا كان معه ابن عم له استشهد معنا في إحدى معارك الغوطة، دفناه تحت شجرة ضخمة، غرب ساقية ماء عليها جسر خشبي، كان أصلاً صندوق سيارة شحن، وكان ساعتها رصاص القوات الفرنسية ينصب علينا كالمطر، كان فريق منا يجهز المدفن، وآخرون يناوشون القوات الفرنسية، ولم نتركه في العراء للوحوش والطير…
لم يدع الرقيب فضل الله يكمل حديثه، وارتمى بصدره عليه يقبل رأسه وشاربيه وهو يقول:«سامحني يا عم، السمان هذا أبي، قسماً بالله لو قطعوا حنجرتي لن يؤذيكم أحد» .
هذه مختارات من وقائع ومواقف فضل الله النجم الأطرش البطولية، هي من تراث بني معروف الغني بالمآثر، ومن حق الرجل علينا أن ندوّن سيرته بأمانة لتكون مثالاً يقتدي به الأبناء والأحفاد.