معاهدة الفرنسية ـ السورية (1936 ـ 1941):

دامت أحداث الإضراب الخمسيني منذ الثامن من كانون الثاني وحتى الخامس والعشرين من شباط 1936، وذهب ضحيتها عدد كبير من الشهداء والجرحى ، ولما لم تعد سياسة زج الزعماء الوطنيين في السجون والمعتقلات تجدي فتيلاً، اضطر المفوض السامي الفرنسي داميان دي مارتل للرضوخ لمطالب الوطنيين فأقال حكومة الشيخ تاج الدين الحسني في 24 شباط 1936، وعين محلها وزارة انتقالية حيادية برئاسة السيد عطا الأيوبي، وفي أول آذار استدعى رئيس الكتلة الوطنية هاشم الأتاسي للتباحث معه في بيروت وأثناء المقابلة قدم له الأتاسي المطالب التالية:
1) إعادة دستور الجمعية التأسيسية طليقاً من كل قيد.
2)  إلغاء نظام الانتداب بعد ثبوت فشله بالتجارب المتكررة وإعلان استقلال سورية، وعقد معاهدة مع فرنسا تحدد علاقات البلدين أسوة بمعاهدة العراق وبريطانيا الأخيرة.
3)  إعلان وحدة الوطن المجزأ حتى تتمكن الأمة من جمع قواها وتوجيهها في سبيل الإنعاش العام، وتخفيف النفقات الباهظة التي أوجدتها التجزئة، والتي كادت تقضي على البقية الباقية من ثروة البلاد.
4)  إعادة المبعدين السياسيين حتى يشاركوا أمتهم بجهودها نحو الاستقلال، ومعاقبة المسؤولين الحقيقيين عن الحوادث الأخيرة الدامية، وإطلاق سراح المسجونين والمعتقلين بسببها»، ووعد دي مارتيل بتنفيذ بعض الطلبات التي تقدم بها الأتاسي في القريب العاجل، مثل طلب إطلاق المبعدين السياسيين لأنها من اختصاصه، وأما بالنسبة لبقية الطلبات مثل إلغاء الانتداب وعقد معاهدة، فهي من اختصاص الحكومة الفرنسية المركزية، وأنه سيقترح على حكومته استقبال وفد سوري للبحث فيها جميعاً، فلاقى الاقتراح تجاوباً وقبولاً من الأتاسي، وبعد عودته إلى دمشق أصدر الأتاسي ـ باسم الكتلة الوطنية التي يرأسها ـ بياناً إلى الشعب السوري يعلمه فيه بمجريات الأمور، وكان هذا البيان مقدمة لعودة الأمور إلى الهدوء، ونفذ المفوض السامي وعوده للأتاسي فأصدر أمره بإطلاق سراح المسجونين الوطنيين وإعادة المنفيين في 8 آذار 1936.
وصدر مرسوم عن رئيس الجمهورية السورية، يقضي بتشكيل الوفد السوري المكلف بالتفاوض مع الحكومة الفرنسية برئاسة السيد هاشم الأتاسي، وعضوية كل من فارس الخوري، جميل مردم، سعد الله الجابري ممثلين عن الكتلة الوطنية، ومصطفى الشهابي، إدمون حمصي ممثلين عن الحكومة، ونعيم أنطاكي سكرتيراً، والقائم مقام أحمد اللحام (أحد ضباط الجيش العربي سابقاً) خبيراً ومستشاراً عسكرياً، وفي 21 آذار 1936 استقل الوفد القطار إلى باريس فوصلها في 26 من الشهر نفسه، وتولى شكري القوتلي رئاسة (الكتلة الوطنية ) نيابة عن هاشم الأتاسي خلال فترة غيابه في باريس.
وبدأ الوفد السوري عملية التفاوض مع الوفد الفرنسي في الرابع من نيسان 1936، وقد تألف هذا من: روبير دوكيه (كان سكرتيراً للجنرال غورو ثم مندوباً عنه في دمشق)، شوفلر (كان مندوباً للمفوض السامي في دمشق ثم حاكماً لجبل العلويين)، سان كنتان (رئيس ضباط الاستخبارات الفرنسية في الشرق)، باستيد (من موظفي الخارجية الفرنسية).
واغتنم الوفد السوري عطلة عيد الفصح بين العاشر والثالث عشر من نيسان 1936 للذهاب إلى جنيف فقابل شكيب أرسلان (سكرتير اللجنة السورية الفلسطينية)، وعبد الرحمن الشهبندر (رئيس حزب الشعب)، ورياض الصلح (السياسي اللبناني المعروف) ، وعاد الوفد بعد ذلك إلى باريس لمتابعة التفاوض.
وكانت العقبة الأساسية الأولى التي اختلف عليها الطرفان هي قضية توحيد الأراضي، فقد أصرّ الجانب السوري المفاوض على وحدة الأراضي السورية بالشكل التي كانت عليه في عهد العثمانيين (أي إعادة منطقة جبل العلويين وجبل الدروز وسنجق الإسكندرونة والأقضية الأربعة السورية التي تم إلحاقها بدولة لبنان الكبير من قبل الجنرال غورو)، واعتبار هذه الأراضي جزءاً لا يتجزأ من الجمهورية السورية التي يفاوضون باسمها، ولم يُحل هذا الخلاف إلا بعد وصول حكومة (الجبهة الشعبية le front populaire) برئاسة المسيو ليون بلوم إلى الحكم أوائل حزيران 1936، وساهم تعيين (فيينو vienot) على رأس الوفد المفاوض الفرنسي في وصول الطرفين المتفاوضين إلى حل وسط يقضي بقيام دولتين مستقلتين في المنطقة (سورية ولبنان)، وأن يبقى لبنان ضمن حدوده الراهنة، مقابل موافقة الوفد الفرنسي على إعادة توحيد إقليمي جبل الدروز وجبل العلويين مع سورية، وأما بالنسبة لسنجق الإسكندرونة فقد أقرت فرنسا بتبعيته لسورية، ولكن بشرط أن يكون له «وضع خاص» يتفق عليه فيما بعد.
وكانت العقبة الثانية أمام نجاح المفاوضات هي المتعلقة بـ (قوات المشرق الخاصة TROUPES SPECIALES DU LEVANT) التي كان يفترض أن تصبح (القوات السورية الخاصة) بعد توقيع المعاهدة، وأصرّ الوفد السوري على استعادة القوات فوراً نظراً لأن نفقاتها كانت من الموازنة السورية طيلة السنوات العشر الأخيرة، هذا في حين كان الجانب الفرنسي يرغب بإبقائها تحت قيادة ضباط فرنسيين خلال فترة معينة يمكن بعدها تسليمها إلى الحكومة السورية بعد توقيع اتفاق عسكري معها.
ودامت المفاوضات بين الجانبين إلى أوائل شهر أيلول 1936 حيث توصلا لصياغة مشروع معاهدة مقبول من كليهما، وقد تم التوقيع على المشروع بالأحرف الأولى من قبل هاشم الأتاسي ممثلاً عن الحكومة السورية، وفيينو والمفوض السامي دي مارتيل ممثلين عن الحكومة الفرنسية، وجرى ذلك خلال حفل رسمي في مبنى وزارة الخارجية الفرنسية في 9 أيلول 1936، وتقرر أن يُعرض مشروع المعاهدة على مجلس النواب السوري، الذي سيُنتخب بصورة حرة للتصديق الرسمي.
وتمت الدعوة إلى انتخاب المجلس النيابي السوري بمرسوم صدر في التاسع من تشرين الثاني 1936 وفازت الكتلة الوطنية بأغلبية المقاعد في المجلس الجديد وأتبع دي مارتيل ذلك بإصدار قرار في 2 كانون الأول 1936 ألحق به جبل الدروز بسورية، وتلا ذلك إصدار قرار آخر في الخامس من الشهر نفسه يقضي بإلحاق جبل العلويين أيضاً ، تنفيذاً لنص المعاهدة وبعدها استقال محمد علي العابد من رئاسة الجمهورية، فاجتمع المجلس النيابي الجديد وانتخب في الجلسة الأولى في 21/12/1936 السيد فارس الخوري رئيساً له، وانتخب في اليوم التالي هاشم الأتاسي رئيساً جديداً للجمهورية السورية، فكلف الأتاسي جميل مردم بتشكيل الحكومة.
وصادق المجلس النيابي المنتخب بالإجماع على المعاهدة السورية - الفرنسية في جلسة 27/12/1936، كما صادقت عليها الحكومة السورية الجديدة، وحملت المصادقة تواقيع رئيس الحكومة جميل مردم، ووزير الخارجية سعد الله الجابري، ووزير الدفاع شكري القوتلي، وبعد أن أبرم رئيس الجمهورية نص المعاهدة في نسختيه العربية والفرنسية، تم إرسال النسختين إلى الحكومة الفرنسية عن طريق المفوض دي مارتيل، الذي وقع عليها بدوره، إلا أن هذه الحكومة احتفظت بالنسختين ولم تُعد أيّ منهما إلى الحكومة السورية، كما يقضي العرف الدولي في شأن المعاهدات.
عرض أحكام المعاهدة: تألفت المعاهدة الفرنسية السورية من ثماني عشرة وثيقة: نص المعاهدة، واتفاق عسكري، وخمسة بروتوكولات، وإحدى عشرة مراسلة ، وها هو ملخص لأحكام النص والاتفاق العسكري الملحق به:
أ‌-  فيما يتعلق بنص المعاهدة فإنه يتكون من ديباجة وتسع مواد، وأهم أحكامه:
1)  تعترف فرنسا بسورية كأمة مستقلة وعليها تهيئة جميع الشروط لقبولها عضواً في (عصبة الأمم) ضمن مهلة لا تتجاوز ثلاث سنوات (الديباجة).
2)  تنشأ بين الدولتين علاقة صداقة وتحالف بعد زوال الانتداب، على أساس الحرية التامة والسيادة والاستقلال (الديباجة).
3)  يسود بين فرنسا وسورية سلم وصداقة دائمان (المادة 1).
4)  تتبادل الدولتان التمثيل الدبلوماسي، وتتشاوران مسبقاً في كل أمر يتعلق بالسياسة الخارجية ويكون من شأنه أن يمس بمصالحهما المشتركة (المادة 2).
5)  في يوم زوال الانتداب يتخذ الطرفان المتعاقدان التدابير اللازمة لنقل الحقوق والواجبات الناجمة عن جميع المعاهدات التي عقدتها فرنسا باسم سورية أثناء فترة الانتداب إلى مسؤولية الحكومة السورية (المادة 3).
6)  إذا حدث خلاف بين سورية ودولة أخرى وكان من شأنه إحداث خطر بقطع العلاقات مع تلك الدولة تتداول الحكومتان لتسوية الخلاف بالطرق السلمية وفقاً لأحكام ميثاق عصبة الأمم أو أي اتفاق دولي آخر ينطبق على مثل هذه الحالة (المادة 4/ف1).
7)  إذا تطور مثل هذا الخلاف إلى نزاع مسلح منذراً بخطر حرب محدق يتداول الطرفان المتعاقدان لاتخاذ تدابير الدفاع الضرورية باعتبارهما حليفين. وتنحصر معونة الحكومة السورية في هذه الحالة على تقديم التسهيلات الضرورية بالمواصلات البرية والبحرية والجوية إلى الحكومة الفرنسية (المادة4/ف2).
8)  إن مسؤولية حفظ النظام في الأراضي السورية والدفاع عنها هي مسؤولية تقع على الحكومة السورية، وتنحصر مسؤولية الحكومة الفرنسية في هذا المجال على تقديم مساعدتها العسكرية إلى سورية خلال مدة المعاهدة حسب أحكام الاتفاق العسكري الملحق (المادة5).
9)  مدة المعاهدة خمس وعشرون سنة، ولا يمكن تعديلها أو تجديدها إلا بناء على طلب أحد الطرفين ـ أو كلاهما ـ بعد انقضاء عشرين سنة على بدء تطبيقها (المادة 6).
10)  تبرم المعاهدة، ويتم تبادل صكوك الإبرام بأسرع ما يمكن، وتبلغ إلى عصبة الأمم. وتوضع هذه المعاهدة موضع التطبيق مع الاتفاقات والعقود الملحقة بها يوم قبول سورية في عصبة الأمم (المادة 7).
11) حالما توضع هذه المعاهدة موضع العمل تسقط عن الحكومة الفرنسية المسؤوليات والواجبات المترتبة عليها فيما يتعلق بسورية، سواء من جراء مقررات دولية أو من أعمال عصبة الأمم، وما تبقى من هذه المسؤوليات والواجبات ينتقل حكماً وتلقائياً إلى الحكومة السورية (المادة 8).
12)  كتبت هذه المعاهدة بالفرنسية والعربية، وكلا النصين رسمي ويُعوّل على النص الفرنسي عند حدوث اختلاف (المادة 9/ف1)، وإذا حصل اختلاف بشأن تفسير هذه المعاهدة أو تطبيقها، ولم يمكن حسمه نهائياً عن طريق المفاوضات المباشرة يلجأ الطرفان المتعاقدان إلى أصول المصالحة والتحكيم المنصوص عليها في صك عصبة الأمم (المادة 9/ف2).
ب‌-  أما بشأن الاتفاق العسكري الملحق بالمعاهدة فإنه ضم ثماني مواد، وأهم أحكامه هي:
1)  إن الحكومة السورية بحلولها محل السلطات الفرنسية تأخذ على مسؤوليتها القوى العسكرية القائمة (قوات الشرق الخاصة) مع تكاليفها وواجباتها. والحد الأدنى الذي يجب أن تكون عليه هذه القوات هو (فرقة مشاة) و (لواء خيالة) والمصالح التابعة لهما.
2)  تتعهد الحكومة الفرنسية بأن تمنح الحكومة السورية التسهيلات التالية بشرط أن تتحمل الحكومة السورية نفقات هذه التسهيلات:
-  وضع بعثة عسكرية تعليمية فرنسية لتعليم الجيش والدرك والبحرية والطيران في سورية، وتتعهد الحكومة السورية في مقابل ذلك بأن لا تستخدم سوى الفرنسيين بصفة معلمين واختصاصيين في المجالات العسكرية.ويجوز لبعض هؤلاء المعلمين الفرنسيين استلام قيادة فعلية في القوى العسكرية السورية بشكل مؤقت إذا طلبت ذلك الحكومة السورية رسمياً من رئيس البعثة العسكرية الفرنسية.
- للحكومة السورية الحق في إرسال بعثات إلى المدارس ومراكز التعليم والقطعات الفرنسية، وللحكومة السورية الحق بإرسال بعثات عسكرية إلى غير فرنسا في حال عدم توفر الاختصاص المطلوب دراسته أو التدرب عليه.
3)  تسهيلاً لتنفيذ واجبات التحالف تتخذ الحكومة السورية لقواها المسلحة سلاحاً وعُدداً من الطراز نفسه المستخدم في القوات المسلحة الفرنسية.
4)  تتعهد الحكومة السورية بوضع قاعدتين جويتين لا تبعدان أكثر من 40 كم عن المدن الكبرى ولا مانع مؤقتاً أن تكون هاتان القاعدتان هما قاعدتا المزة والنيرب.
5)  يحق للحكومة الفرنسية ولمدة لا تتجاوز خمس سنوات من بدء تطبيق المعاهدة، أن تستبقي جنوداً فرنسيين في منطقتي (جبل الدروز) و (جبل العلويين)، ومن الواضح أن استبقاء الجنود الفرنسيين في مختلف هذه النقاط لا يفيد معنى الاحتلال ولا يمس بحقوق السيادة السورية.

 

 

6)  تمنح الحكومة السورية كل ما يمكن من التسهيلات اللازمة لتموين القوى الفرنسية وتعليمها وتنقلاتها ومواصلاتها، وهذه التسهيلات تشمل استعمال الطرق والسكك الحديدية وطرق الملاحة والمرافئ والأرصفة والمطارات وسطوح المياه وحق الطيران فوق الأراضي واستعمال شبكات البرق والهاتف واللاسلكي.
تقيد الحكومة السورية بنص المعاهدة: نظراً لموافقة وتصديق الجميع فإن المفوض السامي الفرنسي وقع النص عند تسليمه إليه لإحالته إلى الحكومة الفرنسية، في أواخر شهر كانون الأول 1936، فقد اعتبرت الحكومة السورية أن المعاهدة أصبحت ملزمة للجانبين، منذ أول عام 1937، دون حاجة لإجراءات أخرى، وأخذت الحكومة تمارس حقوقها وتنفيذ التزاماتها الواردة في أحكام المعاهدة.
وكان تمسك الحكومة السورية بنفاد المعاهدة أمراً سليماً ذلك لأن (المحضر النهائي LE PROCESVERBAL) الموقع عليه من رئيسي الوفدين، في 9 أيلول 1936، كان يقضي بوجوب تصديق المعاهدة من (مجلس النواب السوري) ولكنه لا يشير إطلاقاً إلى وجوب تصديقها من (الجمعية الوطنية الفرنسية L,ASSEMBLEE NATIONALE)، ولذا كان اعتماد الحكومة الفرنسية للنص يكفي لنفاده دون حاجة للتصديق عليه من السلطة التشريعية الفرنسية، يضاف إلى ذلك أن إخضاع سورية للانتداب لم يكن أصلاً وفقاً لقانون من الجمعية الوطنية الفرنسية، وإنما بموجب «إعلان أو تصريح DECLARATION» من الحكومة الفرنسية، ولهذا كان يكفي صدور إعلان معاكس برفع الانتداب عنها كي يزول الانتداب.
وقد وافقت الحكومة السورية على المعاهدة، وصدّقتها رسمياً واعتبرت نفسها مرتبطة بها، منذ 27/12/1936، وأصبح من حقها، منذ ذلك التاريخ ممارسة الحقوق والالتزامات التي اعترفت لها المعاهدة، وكان من الحقوق التي مارستها الحكومة السورية، كحكومة لبلد مستقل، إصدارها لبعض التشريعات السورية (التي كانت من صلاحيات المفوض السامي حتى ذلك الوقت) بواسطة «مراسيم تشريعية» ، ومثال ذلك مرسوم في السابع من كانون الثاني 1937 يقضي بتعيين مظهر رسلان محافظاً على اللاذقية، ومرسوم آخر يقضي بتعيين نسيب البكري محافظاً على جبل الدروز، ويدلّ هذان المرسومان على أن الحكومة السورية المركزية استعادت سلطتها الولائية على هاتين المنطقتين اللتين كانتا مستقلتين عنها قبل المعاهدة، وفي 7 نيسان 1937 حمل رئيس الوزراء جميل مردم بك، رسالة من باريس تقضي بالعفو عن الزعماء السوريين المسجونين والمنفيين إلى خارج القطر، كما تم إطلاق سراح المسجونين والمنفيين داخل القطر في 12 أيار 1937، وسُمح للمنفيين الخارجين (ومنهم شكيب أرسلان، عبد الرحمن الشهبندر، سلطان الأطرش، إحسان الجابري) بالعودة إلى أرض الوطن.
وأثارت تركيا في هذه الآونة قضية سنجق الإسكندرونة وطلبت من الحكومة الفرنسية عدم التصديق على المعاهدة إلا بعد تسوية هذه القضية وحملت رسالة رئيس الحكومة الفرنسية إلى سفير تركيا في باريس، مايفيد أن الحكومة الفرنسية لن تنسى «مصالح تركيا في السنجق» عند تصديق المعاهدة.
ولم تكتف الحكومة التركية بهذا الجواب، فأثارت القضية في عصبة الأمم، وطلبت إلى «لجنة الانتداب» فيها عدم التصديق على إنهاء الانتداب الفرنسي في سورية إلا بعد تسوية مطالبها في سنجق الاسكندرونة ووافقت الحكومة الفرنسية على جميع هذه الخطوات أو تغاضت عنها «لكي تضمن وقوف تركيا على الحياد في الحرب العالمية المقبلة».
وفي هذه الفترة تم عرض مشروع المعاهدة الفرنسية - السورية على الجمعية الوطنية، فأحيل إلى «لجنة الشؤون الخارجية» فيها لدراسته، فاقترحت هذه الامتناع عن تصديقه حفاظاً على مصالح فرنسا في الشرق إذا قامت حرب عالمية جديدة، وقبلت الحكومة الفرنسية قرار الجمعية الوطنية، وحاولت التملص من التزاماتها تجاه سورية فسحبت داميان دي مارتيل كمفوض سام على سورية ولبنان، وعيّنت مكانه أحد غلاة اليمينيين غابرييل بيو GABRIEL PUAUX، مع تعليمات واضحة بطي المعاهدة.
وصل المفوض السامي الجديد إلى بيروت في الأسبوع الأول من عام 1939، وصرح بأن حكومته قد عدلت عن تصديق المعاهدة، وأنها ستعود لتطبيق سياسة الانتداب، وبذلت الحكومة السورية جهدها لتجنب الاصطدام مع المفوض السامي الجديد فجمّدت من تلقاء نفسها الصلاحيات التشريعية التي كانت تمارسها في شكل «مراسيم تشريعية» ولم يُجدِ هذا شيئاً، فقد عَمَدَ المفوض السامي إلى إصدار قرار استعاد فيه الإشراف على الأمن في منطقة اللاذقية، كما وضع وزارتي الدفاع والخارجية تحت الإدارة الفرنسية المباشرة، فدعا هذا حكومة نصوح البخاري لتقديم استقالتها إلى رئيس الجمهورية في 15 أيار 1939.
وفعل رئيس الجمهورية هاشم الأتاسي الشيء نفسه حيث قدّم استقالته إلى مجلس النواب السوري في 7 تموز 1939، وردّ المفوض السامي على ذلك بحل مجلس النواب، وتعليق أحكام الدستور وتولى بنفسه رئاسة الدولة ورئاسة الحكومة، كما كلف بهيج الخطيب برئاسة «مجلس مديرين» يتولى الإدارة العامة في البلاد بموجب القرار 146/ل.ر تاريخ 8 تموز 1939.
ومنذ أن أعلنت فرنسا وبريطانيا الحرب على ألمانيا، في 2/9/1939، أصاب البلاد السورية وبال كبير بعد أن جُعلت مركزاً للصراع البريطاني - الألماني - الفرنسي، وقد فرض المفوض السامي حالة الحصار (الطوارئ) وأقام المحاكم العسكرية لمحاكمة الوطنيين السوريين عشوائياً والحكم عليهم بالنفي أو بالسجن وجرى نهب خيرات البلاد الزراعية باسم «الجهد الحربي» وأصبح المواطن السوري مضطراً لأكل رغيف الشعير أو الذرة الصفراء لأن رغيف القمح كان امتيازاً للجنود الفرنسيين والمدنيين العاملين في خدمة فرنسا حصراً.
ووضع حداً لهذا الجو الرهيب اكتساح الجيوش الألمانية للأراضي الفرنسية في 17 حزيران 1940 ووقوع الجزء الأكبر من الأراضي الفرنسية - بما فيه العاصمة باريس - تحت الاحتلال الألماني، وأعقب ذلك توقيع الهدنة الفرنسية - الألمانية في 22 حزيران، ومغادرة الماريشال بيتان باريس إلى مدينة فيشي التي أصبحت مقراً للحكومة الفرنسية المتعاونة مع الألمان، وقد ثار الجنرال شارل ديغول على هذه الاتفاقية المذلة، والتحق ببريطانيا وأعلن من إذاعة لندن إنشاء حكومة فرنسا الحرة.
وظلت السلطات الفرنسية المنتدبة في سورية ولبنان موالية للحكم الفرنسي المركزي، الذي اتخذ من مدينة فيشي عاصمة له، وخلق هذا جواً من العداء مع الحكومة البريطانية التي أيّدت الجنرال ديغول، وهذا ما فعله قادتها العسكريون والسياسيون الموجودون في كل من فلسطين وشرقي الأردن والعراق.
وعمل المفوض السامي الفرنسي غابرييل بيو على اتخاذ موقف مراوغ فأيّد الفرنسيين الفيشين رسمياً، ولكنه أخذ يراسل الفرنسيين الأحرار في لندن والجزائر سراً، ودعا هذا الموقف حكومة الماريشال بيتان في فيشي لعزله في 24 تشرين الثاني 1940، وعينت مكانه ضابطاً موالياً لها هو الجنرال «دنتز DENTZ».
ونظراً لازدياد الصراع البريطاني - الألماني - الفرنسي على المنطقة حاول الفرنسيون الموالون لحكومة فيشي استمالة الشعب السوري إلى جانبهم، وقام مفوضهم السامي الجنرال دنتز بصرف مجلس المديرين وتشكيل حكومة سورية جديدة برئاسة خالد العظم باشرت عملها في الثالث من نيسان 1941، وقام بتعيين (مجلس شورى مؤقت) لاستشارته في أمر القوانين المراد سنّها، انتظاراً لإجراء انتخابات جديدة وقيام مجلس نيابي في المستقبل القريب.
ولم تُمهل الأحداث المتلاحقة الجنرال دنتز للقيام بأية إنجازات في هذا المجال فقد حشدت القيادة البريطانية (والديغولية) في الشرق مجموعة ضخمة من القوات الإنكليزية والأسترالية والهندية والفرنسية (الحرة) على حدود سورية ولبنان لاحتلالها ووضع حد لإدارة فيشي، وهي الإدارة التي هيأت لتسلل النفوذ الألماني إلى سورية (وخاصة خلال ثورة رشيد عالي الكيلاني في العراق) وتقدمت القوات الحليفة المحتشدة تحت قيادة الجنرال البريطاني «ويلسون»، ودخلت سورية ولبنان في الثامن من حزيران 1941.
وألقت مجموعة من الطائرات الحليفة، فوق المدن السورية واللبنانية الكبرى آلاف المنشورات التي تحمل توقيع الجنرال «كاترو CATROUX» قائد الفرنسيين الأحرار العاملين مع القوات الزاحفة نحو سورية ولبنان، وتضمنت هذه المنشورات اعتراف الجنرال كاترو بأنه دخل مع قواته هذين البلدين لإيصالهما إلى ممارسة الاستقلال الفعلي في أقرب الآجال.
وفي اليوم نفسه وجّه الجنرال ديغول إلى جميل مردم بك، الرئيس السابق للحكومة السورية والمقيم عندئذ في القاهرة، برقية تشير إلى أن نائبه في الشرق، الجنرال كاترو سيذيع بياناً حاز على موافقته مسبقاً يعترف فيه باستقلال سورية، ويأمل من السيد مردم أن يتعاون مع الجنرال كاترو في ذلك ، ودعم السفير البريطاني في القاهرة، مايلز لمبسون، ذلك بتصريح يعترف فيه باسم الحكومة البريطانية بمضمون بيان كاترو، ويقول فيه: «وقد فوّضتني حكومة صاحب الجلالة البريطانية في المملكة المتحدة أن أصرح بأنها تؤيد ضمان الاستقلال الذي أعطاه الجنرال كاترو بالنيابة عن الجنرال ديغول لسورية ولبنان وتشترك فيه» ، وسعت سلطات فيشي في سورية ولبنان التي كانت ترقب ما يجري إعداده والتحضير له في فلسطين والأردن إلى الاستعداد للمواجهة، فقامت بتقديم بعض القوات من حمص إلى إزرع يوم 29 أيار 1941، وجرى نشرها في اليوم التالي على محور الجوخدار - خسفين - فيق - كفر حارب، كما جرى حشد قوات أخرى في منطقة درعا للدفاع عن محور الشيخ مسكين - دمشق ، وحصلت المواجهة بين الطرفين على المحورين.